في الستينيات والسبعينيات، كانت الجزائر تشكل نموذجًا للحركة الوطنية الاشتراكية التي سعت لبناء مجتمع حديث ومستنير. ولكن، التغيرات الكبرى التي شهدتها البلاد في الأواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات غيّرت المشهد تمامًا، حيث أصبحت الأفكار الأصولية هي المسيطرة على النقاش العام والخاص. فما الذي حدث؟

شهدت الجزائر في تلك الفترة استضافة مؤتمرات فكرية تهدف إلى مناقشة قضايا الإسلام وتطويره. وفي أحد تلك المؤتمرات في مدينة بجاية، دُعي المفكر محمد أركون لحضور النقاشات. ولكن الصدمة كانت عندما واجهه رجل دين مصري، يدعى الغزالي، واتهمه بالردة قائلاً له “هذا ليس وطنك”. هذا الحادث كان رمزًا قويًا لما حدث للأفكار العقلانية المستنيرة في الجزائر، التي ورثتها من حضارة الأندلس العالمية، حيث تم طردها لإفساح المجال لوجهات نظر أصولية متشددة.

المشهد السياسي العربي تغير كلية بعد هزيمة 1967. كانت القوى الوطنية البعثية والاشتراكية تسيطر على الحكم والشارع، ولكن الهزيمة العسكرية جعلت الناس يتساءلون عن أسباب الفشل. هنا، بدأت القوى الإخوانية في الظهور من جديد بعد أن كانت مضطهدة في عهد التنوير الاشتراكي، تمامًا كما كان الحنابلة مظطهدين في زمن المأمون. وجدت هذه القوى الإجابة في خطاب ميثولوجي بعيد عن العقل والمنطق، وهو الخطاب الذي زعم أن العصر الذهبي للإسلام كان بسبب قرب السلف من الله. هذا الخطاب أدى إلى تجاهل العوامل الحقيقية التي أسهمت في ذلك العصر، مثل الاهتمام بالعلوم والفلسفات العالمية.

البحث عن الذات في طيات الميثولوجيات لم يؤدِ إلا إلى تفاقم الوضع في ظل ظروف ما بعد الاستعمار. كان من الواجب البحث عن الذات بطرق علمية وفكرية، دون اللجوء إلى ميثولوجيا العروبة والإسلام المتجذرة.

ما يحدث لهوية الجزائر هو شيء مشابه لما يفعله اليهود بوطنيتهم الزائفة المبنية على حقوق وأساطير قبل تاريخية. نحن كجزائريين نملك تاريخًا حافلًا وثريًا لا حاجة لنا بالإصغاء للأساطير والإيديولوجيات المتعصبة.

خلاصة القول، إننا بحاجة إلى إعادة النظر في الأساس الفكري الذي نعتمد عليه لبناء مجتمعنا. علينا أن نعتمد على العقل والعلم في بحثنا عن الذات، وأن نكون واعين لتأثيرات الميثولوجيات والأيديولوجيات المتعصبة على مستقبلنا.

تبقى الجزائر بشعبها وتاريخها القوي قادرين على تجاوز هذه العقبات، ولكن الأمر يتطلب مواجهة جدية مع الأفكار الأصولية وإعادة الاعتبار للفكر المستنير والعلمي.