قبل ظهور الإسلام السني، لم يكن هناك إسلام سني، وهذا يعتبر أمراً صعباً إدراكه لكثير من الناس الذين يعتقدون أن السنة والشيعة كانوا دائماً النسختين الوحيدتين للإسلام منذ أيام النبي محمد وحتى اليوم.
والحقيقة هي أن السنة هي حركة بدأت في أواخر العصر العباسي (فقد جمع الامويين القرآن وجمع العباسيون الحديث) وأصبحت اليوم الشكل السائد للإسلام عبر العالم. ولو تغيّر مسار الأحداث التاريخية، لكان من المحتمل أن تكون المعتقدات الإسلامية اليوم مبنية على أسس أخرى غير السلفية أو “التقليد” بنسختيه الحنبلية والجعفرية اللذان يمثلان الأطر الشعبوية الحالية للاسلام بأكمله.
وجود “التقليدية” في الاسم ينفي تماماً العقلانية ويضع بدلاً منها معنى أساسياً للوجود، ونقطة مرجعية للهوية (خاصة في ظل الصدمة الاستعمارية)، التي ليست مرتبطة بعقلانية عالمية، بل بفترة مثالية من “التاريخ المقدس” أو “السردية المقدسة” التي هي بلا أي قاعدة تاريخية.
هذه الرؤية الجامدة التي تستمد حجتها من الطبيعة الأبدية لله والطبيعة الأبدية للقرآن (على عكس الطبيعة المخلوقة - وهو جدل كبير في الإسلام العباسي المبكر)، حيث تعمل الصرامة النصية كحاجز ضد “أخطاء الإنسان” وتسلم صنع القرار إلى سلطة أعلى نهائية بدلاً من جعل الأمور البشرية إنسانية، وتفويضها إلى سلطة مقدسة، والجلوس والمراقبة، لا إرادة حرة، كل شيء مكتوب ومقرر سابقا. يصبح العمل البشري غير ضروري، غير مرغوب فيه، وغير مستحب، بل وقابل للمعاقبة. بما في ذلك التفكير بشكل مختلف. ديكتاتورية التقاليد. تسليم صنع القرار إلى سلطة مركزية بدلاً من تشجيع الابتكار الفردي، هو ايضا لب الشيوعية والمنظومات الدكتاتورية التي تقدس بعض الافراد.. بالتأكيد هناك تشابه بين الأصولية الإسلامية والشيوعية، وهو أمرٌ يثير السخرية بالنظر إلى أنهما حاربا بعضهما حتى الموت في أفغانستان.
أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر شهدت إنتاج العديد من الأعمال السنية العظمى، والتي تمت بواسطة أئمة اتبعوا الرؤية التقليدية التي بدأت تظهر في تلك الحقبة. قام هؤلاء الأئمة بتتبع كل جانب من جوانب الحياة التقليدية، من كيفية اللبس إلى كيفية الذهاب إلى الحمام، بهدف ترسيخ العقل الإسلامي في طريقة مقدسة لا تتغير لفعل الأشياء. كان كل شيء آخر لم يأت من تلك التقاليد مرفوضاً على أنه مفاهيم جديدة وغير مألوفة لا مكان لها في هذا الإطار. في نفس الفترة، كان الكندي والفارابي والرازي ناشطين جداً في حركة الترجمة والحركة العقلانية، بينما كان البخاري والنسائي ناشطين بقوة في الحركة التقليدية التي انتصرت في نهاية الامر.. هذا هو المكان الذي كان يمكن أن تأخذ فيه الأمور مسارًا مختلفًا وكان يمكن فيه أن تصبح العقلانية المدرسة الرئيسية.
استغل الحنابلة القوة السياسية وبدأوا ما نراه اليوم كشراكة استراتيجية بين الطبقة الدينية والطبقة السياسية للحكم وتعزيز السلطة. مثال على ذلك هو كيفية إدخال حديث خراسان والرايات السوداء في بعض الصحاح كضعيف أو موضوع لتعزيز قوة الخلافة العباسية وإضفاء الشرعية على حكمهم. و حديث اطلبوا العلم ولو في الصين كحديث موضوع لم يرد أصلا في أي من الصحاح لانه بطبيعة الحال كان لا يتماشا مع ايديوليجيتهم.
الصراع بين هاتين الرؤيتين، التقليدية والعقلانية، لم يكن مجرد خلاف بين مدارس فكرية بل كان يمثل تناقضًا أعمق حول كيفية مواجهة تحديات العصر والترتيب الصحيح لمبادئ المجتمع الإسلامي. التفوق النهائي للحركة التقليدية يمكن تفسيره بأنها قدمت وسيلة واضحة ومتفق عليها لتعزيز الهوية الإسلامية والدينية في وقت كانت فيه الخلافة بحاجة ماسة إلى مصادر للاستقرار والتوحيد.
رفض العقلانية ليس متفرداً على الإسلام السني او الشيعي عموما والحنبلي خصوصا, ويمكن العثور عليه بأشكال مختلفة عبر تقاليد دينية وفلسفية مختلفة. هذه التقاليد تركز غالباً على اتباع الوحي الإلهي، أو التجربة الصوفية، أو التعليمات التقليدية على حساب الاستطلاع الفكري والحوار العقلاني. نجد إيديولوجيات مشابهة حول غموض الإيمان وعدم الربط العقلي في أوروبا العصور الوسطية، والصين الطاوية التي انتقدت أيضاً العقلانية البشرية، وأولت أهمية كبيرة للاستمرارية مع الماضي، مما أدى إلى تراجع الصين وتوقف أوروبا.
كل هذا يتعارض مع التأمل الفلسفي، الذي ترى الحنبلية أنه يؤدي إلى الابتداع (سأتذكر دائمًا أن الشيخ مراد كان يبدأ كل صلاة جمعة قائلاً: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) والانحراف عن التعاليم الأساسية. تركز الحنبلية على الاعتماد على النصوص. بينما لا ترفض القياس تماماً، تستخدمه بحذر وتفضِّل تجنب العمليات العقلية البشرية لأنه قد يُدخل أخطاء أو ابتكارات غير متجذرة في النصوص المقدسة، أو في الواقع الهوية البدوية.
نموذج جيد لهذا التناقض يكمن في أصوله. الإسلام العقلي دائما كان موجوداً (وما زال حتى اليوم) في المدن، في حين أن النسخة التقليدية النصية دائماً أتت من الأماكن الأكثر فقراً والأكثر بعداً (مثل طالبان في جبالها، أو الوهابية في صحرائها، أو السلفيين في أحياء الفقر والمناطق الخلفية في المجتمعات العربية). فكّر في بغداد في العصور الوسطى أو قرطبة في النصف الأول من الألفية السابقة حيث لم يكن هناك مكان للرؤى التقليدية للعالم الكبير هناك الذي نريد السيطرة عليه وأن نكون جزءاً منه كقبيلة معزولة داخله. المفارقة أن القرآن يستهين بأولئك التقليديين، ويعاملهم كناقصين، منافقين، ومنكرين وثنيين. سورة التوبة (سورة 9)، آية 97: “الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”.. هذه الآية تخص الناس الذين يعيشون في المناطق الصحراوية الذين كانوا يُعتبرون أكثر عرضة للانحراف عن التعاليم الإسلامية بسبب نمط حياتهم البعيد عن المجتمعات المتحضرة… مما أدّى في النهاية إلى تأثير معاكس.
كانت طبقة التجار في بغداد والأرستقراطية في قرطبة هي التي قادت الحركة العقلانية في العصر الإسلامي المبكر. لقد كانت الصراع بين العقلانيين والتقليديين صراعاً طبقياً في لبه بين الطبقة المتوسطة والطبقة الدنيا.
للعودة إلى الفرضية الرئيسية (أن السنية جديدة، والتاريخ كان يمكن أن يسلك طريق العقلانية) بدأت الحركة السنيّة كرد فعل ضد الكَلاميَّة (اليوم بالكاد موضوع أكاديمي) والعقلانية التي كانت سائدة في العصر الذهبي حيث كانت الأفكار المحلية أو الأجنبية مُرحب بها ومشجعة، وكان هناك هوس حقيقي بالفلسفات الهندية والفارسية والصينية واليونانية في بغداد، عاصمة العالم آنذاك.
رفض العقلانية والتأمل اللاهوتي كان بمثابة آلية دفاعية انطلقت لـ"حماية" القيم الحقيقية والأصالة للثقافات الأعرابية والإسلامية ضد التأثيرات الأجنبية. نفس المدرسة هي التي رفضت المطابع والثورات الصناعية كأفكار أجنبية تتعارض مع أصالة وهوية المجتمع العربي والإسلامي.
الأصولية التقليدية orthodoxy and orthopraxy واستخدام القصر البشري التام على إزالة الأخطاء البشرية بفرض عدم الاعتماد على الإرادة الحرة والعقل. كل جوانب الحياة الدينية وغير الدينية، من أنظمة الإيمان إلى الطقوس اليومية، يتم تدقيقها لضمان الامتثال للتفويضات النصية. أصبحت الابتكار العدو لـ"الحفاظ" على الوضع الراهن، والحفاظ على نقاء التعاليم الإسلامية.. بهدف الحفاظ على الدين في أكثر صوره الأصلية. كيف نمضي قدمًا؟ كيف نعيد العقلانية إلى الجمهور ونجعل التقليدية في المرتبة الثانية هو ما يجب أن ينفق عليه كل نَفَسٍ عربي/مسلم بهدف خلق أصولية جديدة تجد أصولها في الإسلام العقلاني بدل التقليدي.